عرض عام
لقد استخدمت الحكومتان الإسبانية والبريطانية القانونين الدولي والوطني لتقرير ما إذا كان بالإمكان تقديم الدكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان أثناء فترة حكمه.
ففي السنوات الأولى من فترة دكتاتورية بينوشيه، التي امتدت ما بين عامي 1973 و1990، بدأ الناشطون في مجال حقوق الإنسان بتوثيق قضايا الاعتقال غير القانوني والنقل بالإكراه والقتل والتعذيب وإخفاء مواطنين التي كانت تقوم بها قوات بينوشيه. وعقب استعادة الديمقراطية في تشيلي قامت لجنة رسمية للحقيقة بجمع معلومات مفصلة حول 3000 حالة تقريباً من حالات انتهاكات حقوق الإنسان. ولم يكن بالإمكان على أية حال تقديم بينوشيه للمحاكمة في تشيلي، حيث أنه وقبل أن يترك سدة الحكم منح نفسه ومعظم أفراد زمرته حصانة دستورية ضد الملاحقة القانونية.
لقد قام المحامون الذين تولوا الدفاع عن الأشخاص الذين انتهكت حقوقهم بتقديم شكوى جنائية في إسبانيا، مستخدمين في ذلك أداة إجرائية يطلق عليه إجراء قانوني شعبي (accion popular)، والتي تتيح للمواطنين الإسبان المطالبة باتخاذ إجراءات جنائية خاصة في ظل ظروف معينة. وقد سمحت المحاكم الإسبانية بالمضي قدماً في إجراءات القضية، وذلك بناءً على مبدأ سلطة القضاء العالمية التي تتيح عرض القضايا التي تنطوي على أعمال تعذيب وإبادة جماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية أمام المحاكم الإسبانية دون النظر إلى المكان الذي تم ارتكاب الجريمة فيه، وبغض النظر عن جنسية مرتكبي تلك الجرائم أو جنسيات ضحاياهم.
وتم عقب ذلك استصدار مذكرة اعتقال تم بموجبها إلقاء القبض على بينوشيه من قبل السلطات البريطانية في لندن التي كان في زيارة لها. وقد تحدى بينوشيه والمدافعين عنه المذكرة، حيث ادعوا بأن بينوشيه يتمتع بحصانة ضد الاعتقال والتسليم بصفته رئيس دولة سابق، إلا أن مجلس اللوردات البريطاني رفض هذه الحجة مرتين، حيث قرر في المرة الأولى أنه وعلى الرغم من أن رئيس أي دولة سابق يتمتع بالحصانة ضد أية أفعال ارتكبت في إطار مهامه كرئيس دولة إلا أن التعذيب والجرائم ضد الإنسانية لم تكن من (مهام) أي رئيس دولة. وقرر مجلس اللوردات في المرة الثانية أن تشيلي وبريطانيا صادقتا على معاهدة الأمم المتحدة لعام 1984 مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، فإنه ليس باستطاعة بينوشيه أن يدعي بأنه يتمتع بالحصانة ضد اتهامات بارتكابه لأعمال التعذيب.
وقد تم في نهاية المطاف إرسال بينوشيه إلى تشيلي لأسباب صحية ولهذا لم تتم محاكمته في إسبانيا. وقد قامت المحكمة العليا في تشيلي بتجريده من الحصانة البرلمانية التي منحها لنفسه وقررت بأنه يجب محاكمته، إلا أنها قررت مرة أخرى فيما بعد أنه كان مريضاً جداً وأنه لن يتمكن من مواجهة المحاكمة.
لا يقر مشروع التكتيكات الجديدة في حقوق الإنسان أو يؤيد تكتيكات أو سياسات أو قضايا معينة.
كانت واقعة اعتقال وتسليم الدكتاتور التشيلي السابق أوغستو بينوشيه بين أكثر القضايا القانونية غير الاعتيادية. لقد وضعت هذه الواقعة سابقة يمكن استخدامها في المستقبل لاستهداف رؤساء دول حاليين وسابقين وإجبارهم على المثول أمام العدالة الدولية.
لقد وضع قرار مجلس اللوردات سابقة قانونية هامة، حيث أظهر للعالم بأن رئيس الدولة لا يتمتع بأية حصانة ضد الملاحقة القضائية بتهم التعذيب، وأن مثل تلك الجرائم يمكن ملاحقتها في أي مكان في العالم وفقاً لمبدأ سلطة القضاء العالمية، كما وأنه يمكن استخدام المحاكم الوطنية لإجبار الدول على الوفاء بالتزاماتها طبقاً للقانون الدولي.
لقد غير الاهتمام الدولي من المعادلة السياسية في تشيلي، والتي لا يمكنها الاستمرار في التمسك بالقوانين الوطنية التي كانت تحمي منتهكي حقوق الإنسان، بمن فيهم بينوشيه، من أن يحاكموا بسبب ما ارتكبوه من أفعال. والأهم من ذلك كله أن بقاء بينوشيه فترة طويلة قيد الاعتقال في لندن أزال الخوف الذي كان قد زرعه في قلوب الشعب التشيلي، والذي بدأ مجدداً في التحرك إلى الأمام مستخدماً وسائل جديدة